بسم الله الرحمن الرحيم
قواعد في التعامل مع ا لعلماء
إذا كان حديثنا عن التعامل مع العلماء فلابد أن نعرف منهم العلماء وما هي منزلتهم و بعدها نتعرف على القواعد التي يتعامل بها مع العلماء.
من هم العلماء:
العلماء هم العارفون بشرع الله المتفقهون في دينه العاملون بعلمهم على هدى وبصيرة الذين وهبهم الله الحكمة قال الله ( ومن يؤتى الحكمة فقد خيرا كثيرا)
هم ورثة الأنبياء الذين ورثوا العلم عنهم وحملوه في صدورهم فهم ا لعاملون بالعلم الذي ورثوه وهم يدعون الناس إليه وهم الذين نالوا ا لمنزلة العظيمة بالاجتهاد والصبر وكمال اليقين قال الله ( وجعلنهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون)
إذا كان هؤلاء هم العلماء فما هي منزلتهم ومكانتهم في الشريعة الإسلامية :
لقد اعتبرت الشريعة الإسلامية للعلماء منزلة ليست لغيرهم من الناس، وجعلت لهم مقاماً رفيعاً، و أقامتهم أدلاء الناس على أحكام الله – عز وجل-.
وهذا الاعتبار للعلماء: اعتبار شرعي، وينبني عليه أمران مهمان:
الأول: أن طاعتهم طاعة لله – عز وجل – ولرسوله صلى الله عليه وسلم، فالتزام أمرهم واجب.
الثاني: أن طاعتهم ليست مقصودة لذاتها بل هي تبع لطاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
وأدلة هذه المنزلة وهذا الاعتبار للعلماء في الشريعة غير منحصرة، فمنها:
الدليل الأول: أمر الله – عز وجل– بطاعتهم:يقول الله سبحانه:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} *النساء:
وقد اختلف المفسرون في أولي الأمر من هم على أقوال:
فقيل: هم السلاطين وذوو القدرة. وقيل: هم أهل العلم.
قال ابن عباس –رضي الله عنهما-:(يعني أهل الفقه والدين، وأهل طاعة الله الذين يعلمون الناس معاني دينهم، ويأمرونهم بالمعروف، وينهونهم عن المنكر فأوجب الله سبحانه طاعتهم على عباده)
وقيل: هي عامة أهل القدرة وأهل العلم فطاعتهم – جميعاً- واجبة في طاعة الله.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله-:
(“أولو الأمر”: أصحاب الأمر وذووه وهم الذين يأمرون الناس، وذلك يشترك فيه أهل اليد والقدرة، وأهل العلم، والكلام، فلهذا كان أولو الأمر صنفين: العلماء والأمراء، فإذا صلحوا صلح الناس، وإذا فسدوا فسد الناس)((الفتاوى)) (28/170).
وقال رحمه الله:
(وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون يسوسون الناس في دينهم ودنياهم، ثم بعد ذلك تفرقت الأمور فصار أمراء الحرب يسوسون الناس في أمر الدنيا والدين الظاهر، وشيوخ العلم يسوسون الناس فيما يرجع إليهم من العلم والدين، وهؤلاء أولو الأمر، وتجب طاعتهم فيما يأمرون به من طاعة الله التي هم أولو أمرها) ((الفتاوى)) (11/551).
يقول الإمام ابن قيم الجوزية –رحمه الله-:
(والتحقيق أن الأمراء إنما يطاعون إذا أمروا بمقتضى العلم، فطاعتهم تبع لطاعة العلماء، فإن الطاعة إنما تكون في المعروف وما أوجبه العلم، فكما أن طاعة العلماء تبع لطاعة الرسول، فطاعة الأمراء تبع لطاعة العلماء. ولما كان قيام الإسلام بطائفتي: العلماء والأمراء، وكان الناس لهم تبعاً، كان صلاح العالم بصلاح هاتين الطائفتين، وفساده بفسادهما)( ((إعلام الموقعين)) (1/10)، تحقيق: عبد الرؤوف سعد.
الدليل الثاني: أن الله سبحانه أوجب الرجوع إليهم وسؤالهم عما أشكل:
يقول الله تعالى: {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} *الأنبياء:
نعم فاسألوا أهل الذكر:(ذلك أن السائل لا يصح أن يسأل من لا يعتبر في الشريعة جوابه؛ لأنه إسناد للأمر إلى غير أهله، والإجماع على عدم صحة مثل هذا، بل لا يمكن في الواقع؛ لأن السائل يقول لمن ليس بأهل لما سئل عنه: أخبرني عما لا تدري، وأنا أسند أمري لك فيما نحن بالجهل به على سواء، ومثل هذا لا يدخل في زمرة العقلاء) الإمام الشاطبي: ((الموافقات)) (4/262).
وليس معنى سؤال أهل العلم واستفتائهم أنهم يطاعون في تحريم الحلال، وتحليل الحرام فيكون السائل تابعاً والمسئول متبوعاً كحال من: {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ} *التوبة: 31*؛ لأن سؤال أهل العلم إنما هو لطلب حكم الله –عز وجل-، وليس المراد منه طاعة المسئول طاعة مطلقة، ولذلك (لم تختلف العلماء أن العامة عليها تقليد علمائها، وأنهم المرادون بقول الله –عز وجل-: {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} *الأنبياء: 7*… وكذلك لم يختلف العلماء أن العامة لا يجوز لها الفتيا، وذلك والله أعلم لجهلها بالمعاني التي منها يجوز التحليل والتحريم، والقول في العلم) ابن عبد البر: ((جامع بيان العلم وفضله)) (2/114).
إن العلماء بمثابة الأدلاء فبهم يعرف حكم الله، ويستعان بفهمهم لفهم مراد الله – عز وجل – ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم لا أن طاعتهم مقصودة لذاتها.
الدليل الثالث : أن الله سبحانه عظم قدرهم فأشهدهم دون غيرهم على أعظم مشهود : قال الله سبحانه : ( شهد الله أنه لا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم)
قال القرطبي رحمه الله (في هذه الآية دليل على فضل العلم وشرف العلماء وفضلهم فإنه لو كان أحد أشرف من العلماء لقرنهم الله باسمه واسم ملائكته كما قرن اسم العلماء)
الدليل ا لرابع : أن الله نفى التسوية بين العلماء وغيرهم : قال : سبحانه (قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون)
الدليل الخامس : أنهم أهل ا لفهم عن الله عز وجل قال الله ( وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون ):
قال ابن كثير رحمه الله تعالى : ( وما يفهمها ويتدبرها إلا الراسخون في العلم المتضلعون منه)
الدليل السادس : أنهم أهل الخشية : يقول الله سبحانه (إنما يخشى الله من عباده العلماء ):
قال ابن كثير (أي : إنما يخشاه حق خشيته العلماء العارفون به لأنه كلما كانت المعرفة للعظيم القدير العليم الموصوف بصفات الكمال المنعوت بالأسماء والحسنى كلما كانت المعرفة به أتم والعلم به أكمل كانت الخشية له أعظم وأكثر)
فهم بهذا يعرفون ما يستحقه من الأسماء الحسنى والصفات العلى والأفعال الباهرة وهذا يستلزم خشية ومهابة في نفوسهم ويعرفون ما يحب ويرضى ويكره ويسخطه من الاعتقادات والأعمال والأقوال الظاهرة والباطنة هذا يوجب لهم المسارعة في محبة الله ورضاه والتباعد عما يكره ويسخطه.
الدليل السابع : أن أهل العلم أبصر الناس بالشر ومداخل الشر:
( قال الله تعالى: (قال الذين أوتوا العلم إن الخزي اليوم والسوء على الكافرين )
ويقول الله في قصة قارون :(( وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير)) فهذا يدل على أن أهل العلم كانوا بصراء بالشر وعلماء بالخير.
وقال تعالى : ( لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون)
الدليل الثامن: أن العلماء ورثة الأنبياء وهم المفضلون بعد الأنبياء على سائر البشر:
فعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب وأن العلماء وورثة الأنبياء وإن الأنبياء لم يورثوا دينار ولا درهما ولكنهم ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وأفر)
الدليل التاسع : أن نجاة الناس منوطة بوجود العلماء، فإن يقبض العلماء يهلكوا:
عن عبد الله بن عمرو – رضي الله عنهما – قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:((إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم حتى إذا لم يبق عالماً، اتخذ الناس رؤوساً جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا)).
ضلوا بإفتاء الناس بالباطل، وقولهم على الله عز وجل بغير علم ولا هدى، ولا كتاب منير.
وأضلوا الناس الذين اتبعوهم، وحينذاك يهلك الجميع.
عن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال:
(أتدرون ما ذهاب العلم)، قلنا: لا، قال: (ذهاب العلماء)..
وذهاب العلماء معناه: هلاك الناس، عن أبي جناب رحمه الله قال: سألت سعيد بن جبير، قلت: يا أبا عبد الله: ما علامة هلاك الناس؟ قال: (إذا هلك علماؤهم).
والأدلة على هذا كثير لا تفي بذكرها هذه المحاضرة بهذه العجالة ولكن يكفى من السوار ما أحاط بالمعصم .
قواعد في التعامل مع العلماء.:
الأول: موالاة العلماء ومحبتهم:
إن الولاء والبراء: أصل من أصول الإسلام، وهو من لوازم شهادة أن لا إله إلا الله، ولقد تكاثرت النصوص الدالة على هذا الأصل العظيم حتى قال الشيخ حمد بن عتيق رحمه الله: (إنه ليس في كتاب الله تعالى حكم، فيه من الأدلة أكثر ولا أبين من هذا الحكم – يعني: الولاء والبراء – بعد وجوب التوحيد وتحريم ضده) ((سبل النجاة والفكاك)) (ص: 31).
وإن أولى الناس بالموالاة، وأحقهم بالمحبة في الله بعد الأنبياء: العلماء.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (فيجب على المسلمين بعد موالاة الله تعالى، ورسوله صلى الله عليه وسلم موالاة المؤمنين كما نطق به القرآن خصوصاً العلماء الذين هم ورثة الأنبياء، الذين جعلهم الله بمنزلة النجوم يهتدى بهم في ظلمات البر والبحر، وقد أجمع المسلمون على هدايتهم ودرايتهم) ((رفع الملام عن الأئمة الأعلام)) (ص: 11).
وليس معنى موالاة العلماء أن يجعل العالم مناط الموالاة والمعاداة فينتصر الطالب لشيخه ويتعصب لأقواله وآرائه ويجعلها هي الحق فيوالي على أساسها، ويعادي من عاداها، فإن هذا لا يكون لأحد بعد الرسول صلى الله عليه وسلم:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:(ومن نصب شخصاً كائناً من كان فوالى وعادى على موافقته في القول والفعل فهو {مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا}
الثاني: احترام العلماء وتقديرهم:
وهو سنة ماضية حضَّ عليها النبي صلى الله عليه وسلم، ودرج عليها سلف الأمة.
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويوقر كبيرنا، ويأمر بالمعروف وينه عن المنكر ويعرف لعالمنا حقه)).
إن توقير العلماء وتقديرهم واحترامهم من السنة.
قال طاووس بن كيسان رحمه الله: (من السنة أن يوقر أربعة: العالم، وذو الشيبة، والسلطان، والوالد)
ذكره البغوي في ((شرح السنة)) (13/43).).
بل إجلال العالم لعلمه، ولما يحفظه من القرآن إجلال لله –عز وجل- ففي الحديث عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم:((إن من إجلال الله تعالى: إكرام ذي الشيبة المسلم، وحامل القرآن غير الغالي فيه ولا الجافي عنه، وإكرام ذي السلطان المقسط)).
لقد كان سلف هذه الأمة يحترمون علماءهم احتراماً كبيراً ويتأدبون معهم، فلقد أخذ عبد الله بن عباس رضي الله عنهما مع جلالته وعلو مرتبته بركاب زيد بن ثابت الأنصاري وقال: “هكذا أمرنا أن نفعل بعلمائنا وكبرائنا”. وقال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى لخلف الأحمر: (لا أقعد إلا بين يديك أمرنا أن نتواضع لم نتعلم منه)رواه ابن عبد البر في جامع بيان العمل وفضله1/86.
ولما جاء الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله إلى الإمام البخاري وقبل بين عينيه، وقال: (دعني حتى أقبل رجليك يا أستاذ الأستاذين، وسيد المحدثين، وطبيب الحديث في علله…)(البداية والنهاية 11/340).
وقال: (من حق العالم عليك إذا أتيته أن تسلم عليه خاصة، وعلى القوم عامة، وتجلس قدامه، ولا تشر بيديك، ولا تغمز بعينيك، ولا تقل قال فلان خلاف قولك ولا تأخذ بثوبه، ولا تلح عليه في السؤال فإنه بمنزلة النخلة المرطبة لا يزال يسقط عليك منها شيء) (رواه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله 1/146).
الثالث: الأخذ عن العلماء والسعي إليهم:
فمن أراد أن ينال شيئاً من إرث النبوة فعليه مجالسة العلماء، والأخذ عنهم، والآخذ عن العلماء السالك في طريق العلم يسهل الله له طريقاً إلى الجنة.
فعن أبي هريرة رضى الله عنه قال قال رسول الله ( من سلك طريقا يلتمس به علما سهل الله طريقا إلى الجنة ) والعلم الشرعي علم يؤخذ بالتلقي ولا يجدي الأخذ عن الكتب فقط، بل ذلك بلية من البلايا،قال الشافعي رحمه الله في هذا الشأن : من تفقه من بطون الكتب ضيع الأحكام )
وكان بعض السلف يقولون : ( من أعظم البلية تشيخ الصحيفة )
وكذا اجتماع الشباب والطلبة على التدارس دون أخذٍ عن شيخٍ.
اليوم لا يسعى الناس إلى المشائخ بل صار الكثير يأخذ العلم من الصحف التي لا تمت للعلم بصلة بل كثير من الصحف اليوم تتهجم على المشايخ وتريد إسقاطهم حتى لا تكون لهم مرجعية ويصير الناس يتلقون العلم من الصحف ومن الجهل الذي يبث فيها .
الرابع: رعاية مراتب العلماء:
فالعلم درجات، ورتب العلماء متفاوتة، فيجب مراعاتها، مثل مراعاة التخصص، حيث يغلب على العالم فن من فنون العلم، فيكون لقوله في هذا الفن من الاعتبار ما ليس لقول غيره. ( عن ابن عباس رضى الله عنه خطب عمر الناس بالجابية فقال أيها الناس من أراد أن يسأل عن القرآن فليأت أبي بن كعب رضي الله عنه ومن أراد أن يسأل عن الفرائض فليأت زيد بن ثابت رضى الله عنه ومن أراد أن يسأل عن الفقه فليأتي معاذ بن جبل رضى الله عنه )(رواه الطبراني في الأوسط )
قال الإمام الذهبي رحمه الله ( أقرأ هذه الأمة أبي بن كعب وأقضاهم علي وأفرضهم زيد وأعلمهم بالـتأويل ابن عباس ) وقد كان الإمام الشافعي يرعى للأمام أحمد تبريزه في علم الحديث قال الأمام أحمد قال لنا الشافعي : أنتم أعلم بالحديث منى فإذا صح عندكم الحديث فقولوا لنا حتى أخذ به) رواه ابن أبي حاتم في آداب
الشافعي ))
الخامس: الحذر من القدح في العلماء:
فالطعن فيهم سبيل من سبل أهل الزيغ والضلال، ذلك أن الطعن في العلماء ليس طعناً في ذواتهم، وإنما هو طعن في الدين والدعوة التي يحملونها … ولما فقه السلف هذا جعلوا منتقص الصحابة: زنديقاً، لما يفضي إليه هذا القول من الطعن في الدين، وتنقص سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم، وكذلك قال السلف فيمن طعن في العلماء من التابعين فمن بعدهم.
فعن مصعب بن عبد الله قال: ( حدثني أبي عبد الله بن مصعب الزبيري قال :قال لي أمير المؤمنين المهدي يا أبا بكر ما تقول فيمن تنقص أصحاب الرسول الله صلى الله عليه وسلم قال قلت : زنادقة قال : ما سمعت أحد قال هذا قبلك)
وقال الأمام أحمد رحمه الله تعالى : ( إذا رأيت الرجل يغمز حماد بن سلمة فاتهمه على الإسلام فإنه كان شديدا على المبتدعة)
فقل مثل هذا الكلام لمن يسب العلماء في الصحف ويتهمهم بالفشل والجهل بالواقع وعدم معرفة ما يصلح اليوم للأمة وغيرها من تهريفاتهم بغير علم جزافا من القول .
السادس: الحذر من تخطئة العلماء بغير علمٍ:
إن العلماء وإن كانوا بشراً يخطؤون، ولكن اتهامهم بالخطأ يعرض فيه مزلقان خطيران:
الأول: أن يكون اتهامهم بالخطأ غير صحيح، فيُخطّئهم المخطئ فيما هم فيه مصيبون، أو يتهمهم بما ليس فيهم، مثل اتهامهم بالجهل بالواقع، أو اتهامهم بالجهل بأحوال المنافقين والعلمانيين، أما الأول فكما قال الشيخ ابن باز رحمه الله: ” والقول بأن صاحب الفتوى لم يفقه الواقع يحتاج إلى دليل، ولا يتسنى ذلك إلا للعلماء”. أما الثاني: فالعلماء ليس لهم إلا ظواهر الناس، وأما سرائرهم فهي إلى الله تعالى. وقد كان الناس يؤخذون بالوحي في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وإن الوحي قد انقطع.
المزلق الثاني: أن يحكم بالخطأ على العالم غيرُ العالم، فيبني الشخص تخطئته للعالم على جهلٍ، فيقول على الله ـ عز وجل ـ وخلقه بلا علمٍ، ومرّد الحكم على زلات العلماء ليس إلى العوام وأنصاف المتعلمين، إنما هو إلى العلماء.
السابع: التماس العذر للعلماء:
فإنهم خير أمة محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وإذا كان هذا هو الأصل فيهم، فإن الواجب التماس العذر لهم، وإحسان الظن بهم.
فحسن الظن والتماس العذر للمسلم أي كان فضل عن العالم خلق نبيل ( يقول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب : ( لا تظنن بكلمة خرجت من أخيك المسلم سواء وأنت تجد لها في الخير محملا) قال أبو قلابة رحمه الله : ( إذا بلغك من أخيك شيء تكره فالتمس له عذرا فإن لم تجد فقل فى نفسك لعل لأخي عذرا لا أعلمه)
الثامن: الرجوع إلى العلماء والصدور عن رأيهم خصوصاً في الفتن:
إن من شأن الفتن أن تشتبه الأمور فيها، ويكثر الخلط، وتزيغ الأفهام والعقول، والعصمة حينذاك إنما هي للجماعة، التي يمثل العلماء رأسها، فالواجب على الناس: الراعي والرعية، الأخذ برأي العلماء، والصدور عن قولهم. لأن اشتغال عموم الناس بالفتن، وإبداء الرأي فيها ينتج عنه مزيد فتنة وتفرّق للأمة. فالأمور العامة: من الأمن أو الخوف مردّها إلى أهل العلم والرأي.( قال الله ( وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولى الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولولا فضل الله عليك ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا)
التاسع: ليس أحد إلا وتُكُلِّم فيه، فتثبَّتْ:
خاصة في زمان وقوع الفتن والشرور، إذ يكثر الكذب والافتراء، فلابد من مزيد تثبتٍ وتبيّن.
قال الشافعي: ( ليس إلى السلامة من الناس سبيل فانظر الذي فيه صلاحك فالزمه)
أتهام العلماء لا يضرهم شيء قال ا لحسين الكرابيسي : ( مثل الذين يذكرون أحمد بن حنبل مثل قوم يجيئون إلى أبي قبيس يريدون أن يهدموه بنعالهم )
قال الذهبي في ترجمة الفضيل بن عياض رحمه الله : ونال بعض الناس منه غضا فما زاد ذلك إلا رفعة وجلالة ولاح للمنصفين أن كلام أقرانه فيه يهوى وقل من برز في الإمامة ورد على من خالفه إلا عودي ونعوذ بالله من الهوى)
العاشر: الاعتبار في الحكم بكثرة الفضائل:
كما قال سعيد بن المسيب ـ رحمه الله ـ: (“ليس من عالمٍ ولا شريف ولا ذي فضل إلا وفيه عيب، ولكن من كان فضله أكثر من نقصه، ذهب نقصه لفضله. كما أن من غلب عليه نقصانه ذهب فضله)(رواه ابن عبد البر في الجامع (2/48)
وقال أبو حاتم ابن حبان رحمه الله: ( وليس من الإنصاف تر ك شيخ ثبت صحت عدالته بأوهام يهم في روايته ولو سلكنا هذا المسلك ترك حديث الزهري وابن جريج والثوري وشعبة لأنهم أهل حفظ واتقان وكانوا يحدثون من حفظهم ولم يكونوا معصومين حتى لا يهموا في الروايات بل الاحتياط والأولى في مثل هذا قبول ما يروى الثبت من الروايات وترك ما صح أنه وهم فيه ما لم يفحش ذلك من حتى يغلب على صوابه فإن كان كذلك استحق الترك حينئذ)( الثقات 7/97-98)
الحادي عشر: الحذر من زلات العلماء:
إن المنهج الرشيد في التعامل مع زلات العلماء قائم ـ بعد ثبوت كونها زلّة ـ على ركنين:
الأول: عدم اعتماد تلك الزلة والأخذ بها، لأنها جاءت على خلاف الشريعة.
الثاني: العدل في الحكم على صاحبها، فلا يضع من العالم الذي برع في علمه زلة، إن كان على سبيل السهو والإغفال، فإنه لم يعُر من الخطأ إلا من عصم الله جلًّ ذكره.
ومن حقّ العالم أن ينصح إذا زلّ أو أخطأ، بوساطة أهل العلم والفضل، أو بأسلوب غير مباشر، بالكتابة أو الاستفتاء، أو نحو ذلك.
الثاني عشر: كلام الأقران في بعضٍ يطوى ولا يروى:
قال ابن عباس رضي الله عنهما: “استمعوا علم العلماء، ولا تصدَّقوا بعضهم على بعض”.
الثالث عشر: العدل في الحكم على المجتهدين:
وذلك يتحقق بمعرفة القواعد التالية:
أولاً: المجتهد مأجور غير مأزور.
ثانياً: إن الاختلاف بين العلماء أمر مقدور لا يمكن تجاوزه.
ثالثاً: إن اختلاف المجتهدين في الأحكام له أسباب معتبرة، ولم يكن عن تعمد ولا اعتباطاً أو لهوىً أو غير ذلك.
رابعاً: أن الأصل الذي يردّ إليه الخلاف، ويعرف به الحق من الباطل هو: الكتاب والسنة.
خامساً: أن العصمة ليست لأحدٍ بعد النبي صلى الله عليه وسلم، فكلّ يؤخذ من قوله ويترك.
الرابع عشر: ترك المبادرة إلى الاعتراض على العلماء:
إذ على طالب العلم (هذا إن كان طالب علم، ولم يكن عامياً جاهلاً، أو حزبياً موجَّهاً) أن يتهم رأيه عند رأي الأجلَّة من أهل العلم، ولا يبادر بالاعتراض قبل التوثَّق. وليس المراد بترك الاعتراض على العلماء ترك الاعتراض بالكلية، بل المراد ترك الاعتراض في موضع الاحتمال والاجتهاد، (وكذلك في القضايا والنوازل التي تتعلق بالمصالح العامة الأمة)، وترك الاعتراض المقصود لذاته، أو بقصد الوضع منهم وانتقاصهم، وترك المبادرة إلى الاعتراض دون تثبت وتبيّن. أما ترك الاعتراض بالكلية فلا يكون إلا للمعصوم، وقد تقرّر أن العلماء غير معصومين.
الخامس عشر: وضع الثقة في العلماء:
إن من الناس من يطالب العلماء بعمل من الأعمال هم عنه ممتنعون، وما امتناعهم عنه إلا لنظرهم في مآلات الأمور وعواقبها. إذ بعض المصالح قد يمتنع عنه لما يؤدي إليه في المآل من المفاسد العظمى، والدين الإسلامي دين مصالح، فلا يقرّ اعتبار مصلحة دُنيا على حساب مفسدة عظمى. ألا ترون أن قتل المنافق الثابت على نفاقه، المعروف باستهزائه بآيات الله، وبرسوله صلى الله عليه وسلم، وبالمؤمنين أمر مشروع، بل موجبة للقتل، وهو الردة ومفارقة الدين؟ فقد امتنع النبي صلى الله عليه وسلم عنه، لما يفضي إليه هذا القتل من المفاسد.
نعم: لم ينف الحكم الشرعي، ولم يقل بعصمة دم هذا المنافق، وإنما علَّل الأمر برعاية المصالح والمفاسد. ومن ذلك امتناعه صلى الله عليه وسلم عن بناء البيت على قواعد إبراهيم صلى الله عليه وسلم خشية أن يكون فعله ذلك فتنة لقومه الذين أسلموا حديثاً.
فانظر أيها الأخ المبارك: في هذا، وضَعْ ثقتك في أهل العلم الأمناء على شرع الله، واعرف أنهم لن يمتنعوا عن فعل خيرٍ إلا رجاء خيرٍ أعظم أو خشية من وقوع شر أعظم. إن من الناس من يطالب العلماء ـ مثلا ـ أن يبينوا كل شئ، فيبينوا حيثيات ما يصدرون من قرارات أو آراء أو فتاوى تتعلق بأمور الأمة العامة. وهذه مطالبة فيها مخالفة للشرع والعقل، فليس كل أمر يصلح إخبار الناس به. وليس هذا من كتمان العلم المنهي عنه، فإن الكتمان المنهي عنه هو ما لم يكن لمصلحة شرعية، أما إذا كان لمصلحة شرعية فهو مشروع، كما قرره الإمام الشاطبي رحمه الله.
ومن وضع الثقة في العلماء: العلم بأنهم أعرف الناس بما يصلح للمتعلّم من العلم، فهم الربانيون الذين يعلمون الناس، ويربونهم على صغار مسائل العلم قبل كباره، ويبدأون بالأهم قبل المهم. انتهى.
قلت: ولا يخفى أن الدعوة السلفية، هي دعوة علمية، قيامها بالعلم والعلماء، وبجهودهم ثبت أمرها، وعظم خيرها، واستوت على سوقها، فأغاظ ذلك المبتدعة والأحزاب العلمانية والقومية واللبراليين، واجمعوا أمرهم على مناوأتها بكل سبيل، واتفق رأيهم أن سلب الثقة بالعلماء من قلوب المسلمين، أمضى سلاح في محاربتها، لهذا نجدهم يطعنون فيهم، ويجرؤون الناس على الطعن فيهم، ويصوّرون فتاويهم الرشيدة القائمة على اعتبار المصالح الشرعية، شذوذاً عن المنهج الحق، بل يعتبرونها عمالة للحكام، وبيعاً للدين. فالله حسيبهم، وإليه منقلبهم.




اضافة تعليق