تابعنا على

إنتاجات الشيخ خطب مفرغة

الفتوى وما يتعلق بها

فإن درسنا في هذه الساعة سيكون في الفتوى سنتعرض بمشيئة الله عز وجل  من خلاله لمحاور الموضوع وهي : شرف منصب الإفتاء، أصول الفتوى، كراهية التسرع في الفتيا، خطر الفتوى، على المفتي أن تكون لا أعلم في لسانه، القول على الله بغير علم من المحرمات، تحريم الإفتاء في دين الله بالرأي، شروط المفتي، أنواع المفتين، أحكام تختص بالمفتين، آداب الفتوى، آداب المستفتي …

خطبة بعنوان : الفتوى وما يتعلق بها

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)) سورة آل عمران آية (102).

((يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً )) سورة النساء آية (1).

((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً (71))) سورة الأحزاب الآيات (70-71).

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار

فإن درسنا في هذه الساعة سيكون في الفتوى سنتعرض بمشيئة الله عز وجل  من خلاله لمحاور الموضوع وهي : شرف منصب الإفتاء، أصول الفتوى، كراهية التسرع في الفتيا، خطر الفتوى، على المفتي أن تكون لا أعلم في لسانه، القول على الله بغير علم من المحرمات، تحريم الإفتاء في دين الله بالرأي، شروط المفتي، أنواع المفتين، أحكام تختص بالمفتين، آداب الفتوى، آداب المستفتي …

أما بالنسبة لتعريف الفتوى فهي مأخوذة من فتوى وهي فتوى وفتيا وإن كان الأصح أن يقال : هذه فتيا فلان ولا يقال : هذه فتوى فلان . وهي في الاصطلاح : إجابة السائل عن مسألة وفق الأدلة الشرعية لا شك أن الإفتاء منصب شريف ولذلك تولاه رب السموات والأرض سبحانه – قال الله عز وجل – ((وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلْ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ…)) سورة النساء آية (127) وقال سبحانه ((يَسْتَفْتُونَكَ قُلْ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَة)) سورة النساء آية ( 176) فمنصب تولاه الله عز وجل بنفسه كفى به شرفاً ثم أول من قام بهذا المنصب الشريف هو سيد ولد آدم نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم – فكان صلى الله عليه وآله وسلم – يفتي عن الله بوحي منه وكان كما قال الله عز وجل –(( قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنْ الْمُتَكَلِّفِينَ)) سورة الزمر آية (86) فلم يكن متكلفاً صلى الله عليه وآله وسلم – في الفتيا وإنما إن كان عنده علم أجاب وإلا أرجأ الجواب ولم يجب ففتواه صلى الله عليه وآله وسلم – كانت من جوامع الأحكام وتشتمل على فصل الخطاب وأوجب الله تعالى أتباعها وحرم مخالفتها وأمر بالتحاكم إليها فقال سبحانه وتعالى (( … فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً))

 سورة النساء آية (59) ثم أفتى من بعده صلى الله عليه وآله وسلم – جند الله المكرمون وأصحابه العظماء وهم أغزر علماً وأرق قلوباً فكانوا على ثلاثة أصناف : منهم المكثر ومنهم المتوسط ومنهم المقل ومنهم من لم يؤثر عنهم فتوى فالمكثرون سبعة وهم عمر وعلي وابن مسعود وعائشة وزيد بن ثابت وابن عباس وابن عمر قال ابن حزم رحمه الله ويمكن أن يجمع من فتوى كل واحد منهم سفر عظيم يعني لو جمعنا فتاوى ابن عباس لجاءت مجلدات ضخمة هؤلاء المكثرون السبعة وانتشارهم هذا ناتج عن غزارة علمهم والمتوسطون واحد وعشرون صحابياً هؤلاء المتوسطون في الفتيا والذين أثرت عنهم الفتيا من خلال الاستقراء والبحث والتدقيق مائة ونيف وثلاثون إنساناً ما بين رجل وامرأة مع أن أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم – تجاوزا مائة ألف والبقية مقلون يعني يؤثر عنهم الفتوى والفتويين والثلاث والأربع قليل جداً المفتي من الذي يعينه هل ينبري للإفتاء كل شخص وإلا هذا منصب يحتاج إلى تعميد وتنصيب الحقيقة هذا المنصب لا يقدر عليه كل من هب ودب ولا من أراد ولكنه لأهميته ولأنه تعم به البلوى خلافاً للحاكم الحاكم يقضي بين اثنين أو ثلاثة في قضايا خاصة أما المفتي فيتعلق بفتواه الأمة كلها فتوى العالم فتوى للعالم وإن كان ثمة فروق بين قضاء القاضي وفتوى المفتي من حيث أن قضاء القاضي ملزم أما الفتوى فليست ملزمة بمعنى أن الإنسان إذا استفتى عالماً هل يجب عليه أن يعمل بالفتيا أو يجوز له أن يستفتي عالماً آخر ممن يثق بعلمه ودينه يجوز له يقول الخطيب البغدادي ينبغي للإمام والمقصود به الحاكم أن يتصفح أحوال المفتين فمن صلح للفتيا أقره ومن لا يصلح منعه ونهاه طبعاً الإمام هذا اجعلوه بين قوسين ما يتلفظ به الشيعة عج يعني عجل الله فرجه ومخرجه ومن لا يصلح منعه ونهاه أن يعود وتوعده بالعقوبة إن عاد يعني الذي لا يصلح يزجره يقول له : لا تعد مرة أخرى للإفتاء أنت لست أهلاً وإلا عزره وإلا حبسه وطريق الإمام إلى معرفة من يصلح للفتوى أن يسأل علماء وقته ويعتمد أخبار الموثوق بهم فيقولون فلان يصلح للفتيا وفلان لا يصلح للفتيا فينصبه ويعتمده في البلد أو في المنطقة .

المحور الثاني : أصول الفتيا : لا شك أن الفتوى لها أصول تبنى عليها وليست فوضى يفتي الإنسان بمزاجه ورأيه وهواه بل لابد من إتباع الأصول التي درج عليها أهل العلم فأصول الفتوى أربعة : الأصل الأول: النصوص وهي الآيات القرآنية والأحاديث النبوية فإذا وجد المفتي النص أفتى بموجبه ولم يلتفت إلى ما خالفه لأن هذا هو الأصل كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وآله وسلم – فلا يلتفت المفتي بعد وجود النص إلى من خالف كزيد وعبيد من الناس لكن مع الإجلال والتوقير إن كان المخالف من أهل العلم إلا إذا كان النص ليس مراداً منه الظاهر فلا يجوز للمفتي أن يجمد على ظاهر النص ولا يلتفت إلى المخالف بل لابد أن يعرف ماذا قال أهل العلم في معنى هذه الآية أو الحديث ولابد أن يعرف كذلك هل سبق لمثل هذه الفتيا أم لا ؟ ولذا تجد الإمام أحمد رحمه الله تعالى أنه كان يقول : لا تفتي بشيء إلا ولك فيه إمام فالنصوص أحياناً قد لا يكون المقصود منها الظاهر وإلا يقع الإنسان في الخلط والخبط فلابد من معرفة مراد الشارع من هذه النصوص فمثلاً قول الصحابي نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم – أن يسقي زرع غيره بمائه فالمتبادر للذهن تحريم أن يسقي الرجل زرع غيره بفضل ما عنده من الماء فلا يسقي أشجاره ولا زرعه ولكن هذا ليس مراداً وإن كان بعض المتطفلين على العلم فهم هذا قديماً فضحك عليه الناس فالمراد من هذا نهي النبي صلى الله عليه وآله وسلم – الرجل أن يتزوج بالمرأة الحامل فيجامعها فالمقصود بالزرع هنا الحمل فارتبك الرجل وتلعثم فقد لا يكون الظاهر مقصوداً الشيء الآخر أن هذا النص وإن كنت تزعم أنك واقف عليه وأنك متمسك به لكن قد يكون منسوخاً والمنسوخ من الآيات موجود ومن السنة كذلك والمنسوخ إسناد صحيح وفي صحيح البخاري ومسلم وكتب السنة الشيء الكثير من الأحاديث التي نسخت فلا يصلح للإنسان أن ينظر يجمد على النص الموجود بين يديه ولا ينظر في ما إذا كان هذا النص منسوخاً أم لا ؟ قد يكون واقفاً على نص لكن هذا النص قد يعارضه ما هو أقوى منه فلا ينبغي للمفتي أن يفتي بالمرجوح ويترك الراجح وغير ذلك من الشروط المعتبرة التي ستأتي إن شاء الله تعالى في شروط المفتي . الأصل الثاني من أصول الفتوى بعد أن ذكرنا الكتاب والسنة الإجماع وهذا أصل عظيم من أصول السنة والجماعة والمقصود به اتفاق الأمة على حكم بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم – ليس في هذا الحكم نص واضح ظاهر فالإجماع لا تجوز مخالفته بأي حال من الأحوال والإجماع لا شك أنه مبني على دليل سواء كان عموم أو كان قاعدة من القواعد الشرعية أو غير ذلك ولهذا لا تجوز مخالفته .

الأصل الثالث : فتوى الصحابة رضي الله عنهم – يعتبر أيضاً أصل من الأصول فالمفتي إذا وجد فتوى للصحابي فلا يجوز له أن يخالفه بل عليه أن يعمل بها لأن فتاواهم تعتبر من جملة الأدلة وفتاواهم مبنية على أنهم أعرف بالقرآن وبمعانيه وبأنهم قد يكونوا سألوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم – ولم يضيفوا ذلك الحكم إليه أو يكون بعضهم قد سأل بعض وتناقشوا في هذه القضية فأفتى فلان بهذه الفتيا أو أفتى مجموعة منهم وفق هذا الحكم فلا يجوز مخالفة الصحابة الكرام رضي الله عنهم – أما إذا اتفقوا فانتقلنا إلى النقطة الثانية وهي الإجماع التي مرت والأمر كما قال الخطيب البغدادي رحمه الله تعالى – اتفاقهم حجة قاطعة واختلافهم رحمة واسعة وإياك أن تجعل نفسك في مصاف هؤلاء القوم الذين هم أعرف باللسان العربي وأعرف بالقرآن العظيم وبسنة سيد المرسلين صلى الله عليه وآله وسلم – بعض الناس يقول : هم رجال ونحن رجال لكن الرجولة تختلف من شخص إلى آخر فالمفتي لا يمكن أن يبلغ من العلم مبلغ الصحابة رضي الله عنهم – طبعاً أحياناً قد تكون هذه الفتيا الواردة عن هذا الصحابي تكون حجة واحدة عن صحابي واحد لكن لا نعرف له مخالفاً في هذا الباب فهل يقال هذه فتوى واحد لا يؤخذ بها حتى يجتمع الصحابة الكرام ويجمعوا على أن يفتوا بمثل هذا الذي درج عليه الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله – خلاف ذلك أنه إذا كان وجد فتوى لواحد من الصحابة يفتي بموجبها ثم يقول : ولا نعرف لها مخالف إذا كانت هنالك أكثر من فتيا للصحابة فالعمل في هذه الحال أن نتخير من هذه الفتوى ما يتوافق مع القرآن والسنة أو يتوافق مع الأدلة الشرعية والضوابط والقواعد فيقال هذه أرجح الفتاوى إذا لم يترجح عند المفتي إحدى هذه الفتاوى فله أن يحكي الخلاف الوارد وله أن يسكت . الرابع من أصول الفتيا : القياس ولا يصير إليه المفتي إليه إلا عند الضرورة والقياس على كل حال وهو حجة معتبرة وأصل من أصول أو مصادر الشريعة عند أهل السنة والجماعة والمقصود به القياس الجلي التي علته ظاهرة والذي درج عليه الجمهور عدم التوسع في هذا الباب واعتمدوا القياس الظاهر وأعرضوا عن القياس الخفي قال الخلال رحمه الله تعالى سألت الشافعي عن القياس فقال : إنما يصار إليه عند الضرورة ولا شك أيها الإخوة أن القياس الذي علته ظاهرة هو إلحاق فرع بأصل لعلة جامعة بينهما والشرع كما قال شيخ الإسلام يستحيل أن يجمع بين المتفرقات أو المتضادات ويفرق بين المتماثلات محال أن هذا مسكر وهذا مسكر نقول هذا الخمر ورد فيه الدليل فهو حرام وذاك الحشيش أو غيره مسكر لكنه مباح لأنه لم يرد به النص فالشرع يجمع بين المتماثلات ويفرق بين المتضادات ويستحيل أن يجمع بين المتضادات ويفرق بين المتماثلات محال . المحور الثالث : كراهية التسرع في الفتيا قال ابن القيم رحمه الله تعالى – وكان السلف من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم يكرهون التسرع في الفتوى ويود كل واحد منهم أن يدفعها إلى غيره فإذا رأى أنها قد تعينت عليه بذل اجتهاده في معرفتها من الكتاب والسنة أو قول الخلفاء الراشدين فالشاهد من كلامه رحمه الله تعالى – أنهم كانوا يكرهون التسرع في الفتوى وكل واحد مهم يود أن أخاه كفاه المؤنة لا كما هو حاصل الآن يتدافع الناس نحو الفتيا . قال عبد الرحمن بن أبي ليلى رحمه الله تعالى – أدركت عشرين ومائة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم – فما كان رجل يسال عن شيء إلا ود أن أخاه كفاه ولا يحدث حديثاً إلا ود أن أخاه كفاه لأن في ذلك تبعة حتى لا ينسب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم – قولاً يكون خطأ فيدخل في الوعيد من قال علي ما لم أقل فليتبوأ مقعده من النار . وروى مالك في إسناده عن معاوية بن أبي عياش أنه كان جالساً عند عبد الله بن الزبير وعاصم بن عمر فجاءهما محمد بن إياس فقال : إن رجلاً من أهل البادية طلق امرأته ثلاثاً فماذا تريان ؟ قال : عبد الله بن الزبير إن هذا الأمر مالنا فيه قول يعني لم يقبض على لحيته ويسوي عمامته ويجلس ويتربع ويقول : اجلس أنا أفتيك بل قال : ما لنا فيه قول اذهب إلى ابن عباس وأبي هريرة فإني تركتهما عند عائشة رضي الله عنها- ثم ائتنا فأخبرنا قال : فذهبت فسألتهما قال ابن عباس لأبي هريرة أفته يا أبا هريرة ابن عباس أيضاً ما رحب وتهلل وجهه إنما وكله إلى غيره يعني تصدقون أن ابن الزبير وابن عباس ليس عندهما جواب في هذه المسألة لكن فقط لا تسرع في الفتيا كلها إلى غيرك أحسن المقصود هو تعليم الناس وإخراجهم من هذه المعضلة مش المقصود أن يقال فلان أفتى بل المقصود نفع الناس وبث العلم بث معرفة الحلال والحرام والسنة والبدعة بين الناس وليس المقصود أن يقال : والله فلان يفتي فلان استقبل الناس وفلان ما يعرف وفلان يجهل وفلان مرخص وفلان متشدد المقصود هو بث الخير بين الناس سواء عن طريقك أو طريق غيرك حصل المقصود بل كما سيأتي أنهم كانوا يتدافعون الفتيا اذهب إلى فلان والثاني يقول : اذهب إلى فلان حتى ترجع إلى الأول قال : أفته يا أبا هريرة فقد جاءتك معضلة ابن عباس يقول : معضلة وهو حبر الأمة وترجمان القرآن فقال أبو هريرة الواحدة تبينها والثلاث تحرمها حتى تنكح زوجاً غيره فالمسألة واضحة وظاهرة لكن من باب عدم التسرع في الفتيا والتدافع كل واحد يدفعها إلى غيره . قال : سحنون إني لأحفظ مسائل منها ما فيه ثمانية أقوال من ثمانية أئمة من العلماء فكيف ينبغي أن أعجل في الجواب قبل أن أسبر غور هذه الفتاوى والأقوال وأعرف ما هو الصواب وما هو الخطأ ثم قال : فلم ألام على حبس الجواب ؟ بعض الناس يأتي فلان بفتوى فيقول : الآن وكأن القضية يعني جنازة نريد دفنها انتظر شوية يقول : ما تعرف الجواب قل له لا ما أعرف الجواب التسرع لعلك تفتي هذا الإنسان ثم ينصرف ويتبين لك بعد أن ينصرف من عندك غلط من يوصلك الآن إلى هذا الإنسان ؟ وكيف تتراجع عن الجواب ؟ وكيف تعدل له الجواب ؟ ذهب الرجل بالفتيا ورماها في عنقك وأنت تتحملها خلق الإنسان من عجل . قال حذيفة بن اليمان رضي الله عنه – إنما يفتي الناس أحد ثلاثة : رجل قد علم ناسخ القرآن من منسوخة وأمير لا يجد بداً أو أحمق متكلف قال : فربما قال : ابن سيرين فلست بواحد من هذين يعني لست ممن يعرف ناسخ القرآن من منسوخة أو أميراً ولا أحب أن أكون الثالث أي المتكلف الأحمق وهذا ابن سيرين الذي كان علماً من أعلام الأمة وعن الشعبي والحسن وأبي حصين رحمهم الله تعالى- قالوا : إن أحدكم ليفتي في المسألة لو عرضت على عمر لجمع لها أهل بدر . وقال بعضهم لكأن مالك والله إذا سئل عن مسألة واقف بين الجنة والنار يعني ينظر إلى الجنة وثوابها والنار وعقابها والسؤال في ذهنه ثم يتخيل يقول : أنا الآن لو أفتيت ولم أتبين فالنار وقد ورد في بعض الآثار أجرأكم على الفتيا أجرأكم على النار وينظر إلى الجنة قال مالك : ربما وردت علي المسألة تمنعني من الطعام والشراب والنوم فقيل له : يا أبا عبد الله والله ما كلامك عند الناس إلا نقر في حجر يعني موثوق ما تقول شيئاً إلا تلقوه منك قال : فما أحق أن يكون هكذا إلا من كان حجر يعني من كان الناس ينتظرون قوله فيعملون به حق له أن يتأنى وحق له أن يتأرق نومه وحق له أن يعيش في قلق ولهذا الإمام أحمد رحمه – في محنة القرآن كانوا يعولون على كلامه لأن الناس قد سقطوا في الفتنة فكان يمكنه أن يتجاوز مرحلة الضرر فيكون عنده مندوحة أنه وصلت به الحال إلى مرحلة الضرر لكنه صبر على البلاء لأن الناس كانوا يمشون وراءه من سجن إلى سجن ومن مكان إلى مكان معهم الأوراق والأقلام ينتظرون منه قولاً في خلق القرآن فما زاده ذلك البلاء والعذاب إلا إيماناً وتثبيتاً حتى لقب بإمام أهل السنة والجماعة بحق يقول ابن القيم رحمه الله – الجرأة على الفتيا تكون من قلة العلم أو غزارته فإذا قل علمك أفتى عن كل ما يسأل عنه لغيره وإن اتسع علمه اتسعت فتياه ولهذا كان ابن عباس رضي الله عنهما – من أوسع الصحابة فتيا فالواجب عدم التسرع في الفتيا ولذلك ينقلون عن الخطيب البغدادي رحمه الله – أنه كان لا يجيب على سؤال إلا مكتوباً ما يجيب على الهواء مباشرة يجيب في الورق يأخذ الأوراق يقرأ يفتش يكتب وهو موقن . لا شك أن الفتوى خطرة جداً وذلك لأنه كما قلنا آنفاً الفتيا متعلقة بالناس جميعاً سواء كانت مسموعة أو مكتوبة فكل واحد يسمع كلامك يأخذ بفتواك وكل واحد يقرأ كتابك يأخذ بفتواك أفتى فلان بكذا في كتابه فالفتوى تتعلق بالأمة كلها لذلك قال جعفر بن الحسين : رأيت أبا حنيفة في النوم فقلت : ما فعل الله بك قال : غفر لي فقلت بالعلم ؟ فقال : ما أضر الفتيا على أهلها يعني مش بالعلم قال : فقلت بما غفر الله لك ؟ قال : بقول الناس في ما لم يعلم الله أنه مني يقولون : قال أبو حنيفة قال أبو حنيفة ولم يقل وإلا فالفتيا خطرها عظيم ولذلك حذر الأئمة الكبار كأبي حنيفة والشافعي ومالك وأحمد حذروا بالقول من قولهم أو تقليدهم دون النظر إلى أدلتهم لا تقلدني ولا تقلد مالكاً ولا الشافعي ولا فلان وخذوا من حيث أخذنا . إذا وجدتم كلامي يخالف كلام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم – فاضربوا بكلامي عرض الحائط لماذا ؟ خوفاً من التبعة لذلك قال سحنون : إنا لله ما أشقى المفتي والحاكم ثم قال : ها أنا ذا يتعلم مني ما تضرب به الرقاب وتوطأ به الفروج وتأخذ به الحقوق أنا كنت عن هذا غنياً هذا علم من أعلام الأمة له باع عريض في الفقه وفي القضاء يقول مثل هذا الكلام يعني كأنه يقول : لو كنت عامياً من العوام كنت سلمت من هذه القضايا لكن هذا تواضعاً منه رضي الله عنه – قال أبو عثمان الحداد : القاضي أيسر مأثماً وأقرب إلى السلامة من الفقيه يعني أن الفقيه من شأنه إصدار ما يدل عليه من ساعته بما حضره من القول وأما القاضي شأنه الأناة والتثبت فمن تأنى وتثبت تهيأ له من الصواب ما لا يتهيأ لصاحب البديهة يقول إن القاضي يأتي إليه الخصمان دليلك برهانك تعال بكرة هات الشهود هذا الشاهد ليس بعدل ائتوا بمعدل اتركوا لنا فرصة ننظر نجمع الأقوال ننظر فيها نقابل فيها تعال احلف أذكرك الله اخش من الله خاف من عقاب الله خاف النار أعد كلامك من جديد إذا تناقض هذا كلام متناقض لا يقبل هو أنت والأمر كما قال صلى الله عليه وآله وسلم – ((إنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض فمن قضيت له بحق أخيه شيئا بقوله فإنما أقطع له قطعة من النار فلا يأخذها))[1] فيكون هنا قد أدى القاضي وسعه وجهده بخلاف المفتي فإنه يفتيه بحسب ما عنده من العلم على البديهة ما يثبت ولذلك لو تثبت المفتي وأخذ مهلة من الناس وأخذ الأوراق منهم كان أحسن وألطف ومن ذلك أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال ((إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رؤوسا جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا))[2] فالعالم إذا زل زلت الأمة وكذلك يقول صلى الله عليه وآله وسلم ((  من يقل علي ما لم أقل فليتبوأ مقعده من النار))[3]

وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ” من أفتي بغير علم كان إثمه على من أفتاه ” زاد سليمان المهري في حديثه  ومن أشار على أخيه بأمر يعلم أن الرشد في غيره فقد خانه))[4] يقول العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى – فكل خطر على المفتي هو على القاضي وعليه من زيادة الخطر ما يختص به لكن خطر المفتي أخطر من جهة أخرى فإن فتواه شريعة عامة تتعلق بالمستفتي وغيره . أنت لما تسأل هذا الجواب ليس لزيد من الناس وإنما هذه فتوى عامة يأخذها كل من كان واقعاً في هذا الأمر فمن العيب مثلاً أن يقال أنا في الحقيقة ما أفتيت إلا علي أما زيد ما أفتيته وإلا أنا أفتيت أهل اليمن ما أفتيت أهل مصر هذا الكلام في غير محله فإن الفتوى تتنزل منزلة الشرع ففتيا العالم فتوى للعالم كله حيث ما يقول هذه القضية حلال هي حلال هنا وحلال في مصر وفي الكويت وفي نجد وحيث ما يقول هي حرام فهي حرام في كل مكان وإلا يكون الأمر كما قال الأول باؤكم تجر وباءنا لا تجر هذا لا يصلح فالحكم هو الحكم يتنزل حيثما كانت المسألة مطابقة للمسألة الأم العلامة ابن القيم له كتاب قيم اسمه إعلام الموقعين عن رب العالمين العالم يفتي كأنما يوقع عن الله عز وجل – في الفتوى يقول هذا حلال وهذا حرام الحلال ما أحله الله تعالى والحرام ما حرمه الله تعالى – ما يحلل الإنسان من ذات نفسه ولا يحرم ولذلك قال الله تعالى ((وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمْ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (116) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ))

 سورة النحل الآيات ( 116-117) فاعلم أن الحاكم حكمه جزئي خاص لا يتعدى غيره بمعنى أن القاضي قد يفتي فلان في قضية معينة لهذا ويقضي في قضية مشابهه للآخر بحسب ما يتوفر عنده من الأدلة فالمفتي يفتي حكماً عاما ً كلياً أن من فعل كذا ترتب عليه كذا ومن فعل كذا لزمه كذا والقاضي يقضي قضاءً معيناً على شخص معين فقضاؤه خاص ملزم وفتوى العالم عامة غير ملزمه وكلاهما أجره عظيم وخطره كبير .

خامساً : على المفتي أن تكون لا أعلم على لسانه قال أبو داود السجستاني صاحب السنن في مسائله له أسئلة قدمها الإمام أحمد شيخه قال : ما أحصي سمعت أحمد سئل عن كثير مما فيه الاختلاف في العلم فيقول : لا أدري قال : وسمعته يقول : ما رأيت مثل ابن عيينة في الفتوى كان أهون عليه أن يقول : لا أدري قضية لا أدري أو لا أعلم كما قال الأول : أنها نصف العلم لكن الآن ثقيلة على النفس وصعب على النفس أن يأتي العالم أو طالب العلم فيبدأ كلامه بحرف اللام لا بد أن يبدأ بالنون نعم لكن يقول مثلاً لا أعرف أو لا أدري يرى أنها ثقيلة وسيأتي عن كثير من أهل العلم أن هذه الكلمة كانت تجري على ألسنتهم . قال عبد الله بن أحمد : في مسائله أيضاً سمعت أبي يقول : وقال عبد الرحمن بن مهدي سال رجلاً من أهل الغرب مالك بن أنس عن مسألة فقال : لا أدري فقال : يا أبا عبد الله تقول : لا أدري قال : نعم أبلغ من ورائك أني لا أدري أيش في هذه ؟ لا ينقص وزني ولا قدري وقال عبد الله بن أحمد كنت أسمع أبي كثيراً يسال عن المسائل فيقول : لا أدري ويقف إذا كانت المسألة فيها خلاف وكثيراً ما كان يقول : سل غيري فإن قيل له من نسأل ؟ قال : سل العلماء ولا يحدد شخصاً بعينه حتى لا يقيد السائل بفلان من العلماء وهذا فيه إنصاف في الحقيقة لأن العامي لا مذهب له العامي مجتهد مطلق في اختيار من يستفتيه ومقلد في العمل بفتوى من يستفتيه فهو مجتهد في اختيار العالم الورع صاحب الدين فيذهب يستفتيه وتختلف من مسألة إلى مسألة لكنه بعد أن تصدر الفتوى فهو مقلد . قال عبد الله : وسمعت أبي يقول : كان ابن عيينة لا يفتي في الطلاق ويقول : من يحسن هذا ؟ يعني يقول : أنا لا أحسن . قال ابن عباس إذا ترك العالم لا أدري أصيبت مقاتله وقال : هذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم – رسول العالمين وإمام المسلمين يسأل عن شيء فلا يجيب حتى يأتيه الوحي من رب العالمين . قال الشعبي : لا أدري نصف العلم وقال علي رضي الله عنه – من علم الرجل أن يقول : لما لا يعلم الله أعلم لأن الله تعالى قال لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم – ((قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنْ الْمُتَكَلِّفِينَ)) سورة  ص آية (86) وقال ابن عمر رضي الله عنهما – أهل العلم ثلاثة : كتاب ناطق وسنة ماضية ولا أدري .وقال علي رضي الله عنه – يا بردها على الكبد أن تقول لما لا تعلم الله أعلم . وقال ابن وهب : سمعت مالكاً يقول : العجلة في الفتوى نوع من الجهل والخبط وكان ابن المسيب لا يكاد يفتي فتيا ولا يقول شيئاً إلا قال : اللهم سلمني وسلم مني . سادساً : القول على الله بغير علم من المحرمات . إن التحليل والتحريم لله عز وجل – ليس لأحد من خلقه والتشريع والتقنين لله عز وجل – وليس لأحد من خلقه ولذلك القول على الله تعالى بغير علم جعله الله تعالى من أعظم المحرمات حتى أعظم من الشرك بالله عز وجل – لأن هذا الإنسان يصير نفسه محللاً  ومحرماً ومشرعاً من دون الله تعالى  لما يفتي تتنزل فتياه منزلة التشريع يا إخوان ولهذا فإن الله عز وجل – قد حرم القول عليه بغير علم ومن ذلك الإفتاء والقضاء وجعل الله عز وجل – القول عليه بغير علم من أعظم المحرمات قال تعالى ((قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ )) سورة الأعراف آية(33) فأنظر أين جعل القول عليه بغير علم رتب المحرمات إلى أربع مراتب : بدأ بأسهلها الفواحش ثم ثنى بما هو أشد منها تحريماً وهو الإثم والظلم ثم ثلث بما هو أعظم من هاتين وهو الإشراك بالله تعالى ثم ذكر بعدها بما هو أشد من هذه الثلاث وهو القول على بغير علم . وهذا الكلام طبعاً يعم سواء كان في أسماء الله تعالى وصفاته أو كان في الحلال والحرام سواء كان في أي باب من أبواب الشر . قال الله تعالى ((وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمْ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (116) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ )) سورة النحل الآيات ( 116-117) ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم – ذلك الأمير أن ينزلهم على حكم الله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم  ((…وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه فلا تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة أصحابك فإنكم أن تخفروا ذممكم وذمم أصحابكم أهون من أن تخفروا ذمة الله وذمة رسوله وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله ولكن أنزلهم على حكمك فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا))[5] الشاهد من هذا أن القول على الله محرم ولذلك يلزم على المفتي أن يتحرى ويتثبت وأن يصبر في إصدار الفتيا حتى يتأكد من أن هذا الكلام يسير وفق القواعد والضوابط الشرعية وله أدلته وحتى يهيأ جواباً يرضي . سابعاً : تحريم الإفتاء في دين الله تعالى بالرأي المتضمن مخالفة النصوص . قال الله تعالى ((فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)) سورة القصص آية (50) وقال سبحانه وتعالى ((يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعْ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ)) سورة ص آية (26) فقسم الله تعالى الحكم بين الناس إلى قسمين : الحق : وهو المنهج الذي أنزله تعالى على رسوله صلى الله عليه وآله وسلم – والثاني : الهوى الذي هو متصادم ومخالف للحق . فالحكم  لا يكون إلا بهاتين الطريقتين وقال تعالى(( ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنْ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنكَ مِنْ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ))

سورة الجاثية الآيات 18- 19) فقسم الأمر بين الشريعة التي جعلها الله عز وجل – وأوحى للنبي صلى الله عليه وآله وسلم – بالعمل بها وأمره بتبليغها وبين إتباع الهوى وأهواء النفس التي تتفق مع شهواته وعقولهم القاصرة فأمر الله تعالى بالأول ونهى عن الثاني وهو إتباع الهوى . نأتي الآن إلى النقطة الثامنة وهي شروط المفتي . طبعاً إذا أردنا أن ننزل هذه الشروط في الحقيقة فيندر أن تجد مفتياً على وجه الأرض لكن الأمر كل بحسبه فقد نتجاوز عن بعض هذه الشروط في بعض الأزمان والأماكن من هذه الشروط التي ذكروها قالوا : أن يكون ظاهر الورع لأن المتورع عن الحرام وعن الشبهات فضلاً عن الحرام مشهوراً بالديانة الظاهرة والصيانة الباهرة وأن يعمل بما يلزم به الناس . لا يكون عالماً حتى يعمل في خاصة نفسه بما لا يلزمه الناس يعني بالأشياء التي لا يلزمه الناس أن يعمل بها ولو تركها لكان له مندوحة لكنه يعملها لأنه في هذه المرتبة من العلم . أنظر إلى شروط الشافعي الآن يقول رحمه الله . لا يحل لأحد أن يفتي في دين الله تعالى – إلا رجلاً عارفاً بكتاب الله بناسخه ومنسوخة ومحكمه ومتشابهه وتأويله وتنزيله أما كونه عارفاً بكتاب الله عز وجل – فهذا واضح بأي شيء يفتي إذا لم يكن عارفاً بكتاب الله تعالى وأما بالناسخ والمنسوخ فكذلك لابد لأنه قد يفتي الناس بشيء منسوخ فيفتي المرأة مثلاً بأنها تعتد سنة لأنه ورد في القرآن أنها تعتد سنة لكنها منسوخة إذا لم يكن عارفاً بالناسخ والمنسوخ أفتى الناس بغير حكم الله تعالى – قال الله تعالى ((  وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ…)) سورة البقرة آية ( 240) لكن لا هذا منسوخ والذي عليه العمل أنها تعتد أربعة أشهر وعشراً . المحكم والمتشابه لابد أن يعرف هذا ويعرف التأويل أي التفسير لهذا الحكم يعرف المعنى ويؤله التأويل الصحيح والتنزيل يعرف أيضاً كيف ينزل هذه الآيات على أرض الواقع ينزلها على هذه المسألة وكذلك تنزيله هل هذا مكي أو مدني وما أريد به أيش المراد من هذه الآية أيضاً ؟ ويكون بعد ذلك بصيراً بحديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم – لأن الأحكام إما منبثقة من القرآن أو السنة فإذا لم يكن الحكم موجوداً في لقرآن قد يكون موجوداً في السنة ويعرف من الحديث ما عرف من القرآن يعني المحكم والمتشابه والعام والخاص والمطلق والمقيد ويكون بصيراً باللغة العربية بصيراً بالشعر فلابد من معرفة اللغة وإلا كيف يفهم معاني القرآن إذا لم يفهم اللغة العربية وكيف يفهم الحديث أيضاً. الشعر المقصود به أن يكون معين على فهم اللغة ويستعمل هذا مع الإنصاف ويكون بعد هذا مشرفاً على اختلاف أهل الأمصار يعني يعرف كيف فهم هذا الإمام هذا الدليل وكيف استنبط منه ذلك العالم خلاف العالم الأول وما هو الراجح بين هذا الفهم وذاك حتى تفتي بما يترجح عندك وبما تتعبد به لله عز وجل – ما تفتي تقليداً لذلك فإن التقليد جمهور العلماء لا يجعلونه علماً فالتقليد ليس علماً والمقلد ليس عالماً جمهور الشافعية لا يرون أن المقلد عالماً وأنه هل يصلح أن يكون مفتياً أو لا ؟ على قولين : منهم من يجعله مفتياً لكن شريطة أن يحذف هذا القول قال فلان وقال فلان ومنهم قال : لا يصلح أن يكون مفتياً . قال : وتكون له قريحة بعد هذا فإذا كان هذا فالأولى أن يفتي في الحلال والحرام وإذا لم يكن هكذا فليس له أن يفتي . ومنهم من قال : يشترط في المفتي أن يكون مكلفاً مسلماً ثقة مأموناً متنزهاً عن الفسق وخوارم المروءة  أما هذه فالشروط مضبوطة . أن يكون فقهياً سليم الذهن رصين الفكر هذه تحتاج إلى خلو من المنغصات صحيح التصرف والاستنباط متيقظاً يشترط فيه أيضاً ألا يؤثر فيه قرابة مش يكن عنده رحمة زائدة لما تجئ أمه وإلا أبوه وإلا أخوه فيحاول يلف ويدور يهون من الحكم قليلاً لا ما تؤثر فيه حتى أمه جاءه أبوه يقول أنا قلت لأمك أنت طالق وأنت أنظر يا بني ما يخارجك بين يدي الله تعالى شوف إخوانك الجهال كيف نعمل بعد تتفرق الأسرة وربما قال له وبعدين أنت تتحمل المصاريف يخوفه لا تؤثر فيه قرابة هذا حكم الله يقول : أنت خلاص على جنب وأمي على جنب خلاص وقع الطلاق فلا تؤثر فيه قرابة ولا عداوة شخص مثلاً عدو له يقول له : أوقعك الله تعال قصوا رقبته لا هذه أحكام الله تعالى ما يصلح أن يكون مفتياً لأنه موقع عن الله تعالى – ولا جر نفع ولا دفع ضر جاءه مثلاً تاجر صاحب رقبة يستفتيه مثلاً قال : والله خلونا نحصل منه شيء لأنه لو قلت له كذا بيزعل خلينا نمشيها كذا لذلك أنكر العلماء على ابن بكر العربي القاضي المالكي أن الأمير في الأندلس وقع على زوجته في نهار رمضان أيش الحكم ؟ كفارة مغلظة فقال ابن المالكي هذا الأمير مشكلته مشكلة لو قلنا له اعتق رقبة سيعتق عشرين أمير عنده فلوس الدنيا ولو قلنا له أطعم ستين مسكين سيطعم ستين ألف مسكين لكن قرح رقبته يصوم شهرين متتابعين أنكروا عليه هذه الفتوى قالوا حكم الله بالترتيب والله تعالى أرحم بعباده منا وأعرف بمصالح عباده قال ابن القيم رحمه الله لا يصلح العالم أن يكون مفتياً إلا أن يكون ممن اتصف بالعلم والصدق فيكون عالماً بما يبلغ صادقاً فيه ويكون مع ذلك حسن الطريقة مرضي السيرة عدلاً في أقواله وأفعاله متشابه السر والعلانية في مدخله ومخرجه وأحواله وإذا كان منصب التوقيع عن الملوك في المحل الذي لا ينكر قدره ولا يجحد فضله وهو من أعلى المراتب فكيف بمنصب التوقيع عن رب الأرض والسموات منصب عظيم . قال الإمام أحمد رحمه الله – أيضاً يذكر شروط المفتي لا ينبغي أن يفتي حتى يكون فيه خمس خصال : النية الخالصة وحلم ووقار وسكينة وأن يكون قوياً على ما هو فيه يعني قادر على الإفتاء قادر على التحمل والكفاية مش يفتي الناس حتى خمسين ريال حق الختم هات مائة ريال حق الورقة تفتي الناس لوجه الله تعالى لكن إذا كان منصباً من قبل الدولة وألزمتك بهذا وأعطتك مرتب هذا شيء آخر أما أن تأخذ مقابل الفتوى لا إطلاقاً وبعضهم يحتال لكن هذه حيلة غير شرعية قال : إذا جاءك الشخص يريد فتوى أفتيه باللفظ لكن لو قال : بالكتابة الآن اختلفت القضية حق الكتابة بزلط بفلوس لكن بدون كتابة مجان الفتوى هي واحدة سواء كانت كذا وإلا كذا لا يصح الخصلة الخامسة أن يكون على معرفة بالناس بصيراً بمكرهم وخداعهم حتى لا يلبسوا عليه .

 طيب المسألة التاسعة : أنواع المفتي قال ابن الصلاح المفتون قسمان : مستقل وغير مستقل والمقصود بالمستقل يعني المجتهد المطلق غير المقلد المستقل شرطه مع  ما ذكر آنفاً من الشروط أن يكون قيماً بمعرفة أدلة الأحكام الشرعية من الكتاب والسنة والإجماع والقياس وما التحق بها وأن يكون عالماً بما يشترط في الأدلة ووجوه دلالتها ويكفيه اقتباس الأحكام منها وأن يكون أيضاً عارفاً بعلوم القرآن والحديث والناسخ والمنسوخ والنحو واللغة والصرف وائتلاف العلماء واختلافهم بالقدر الذي يمكن معه من الوفاء بشروط الأدلة والاقتباس منها ذا دراية وارتياض عالماً بالفقه ضابطاً لأمهات مسائله وتفا ريعه فمن جمع هذه الأوصاف فهو المفتي المطلق المستقل وهو المجتهد المطلق يعني هذه الأوصاف في الشخص صار مجتهد مطلق مش مقلد . أما النوع الثاني وهو المفتي الذي ليس بمستقل وهو الذي ينتسب إلى أئمة المذاهب المتبوعة مالك والشافعي وأحمد وأبو حنيفة وهو على أربعة أحوال:

الحال الأول : لا يكون مقلداً لإمامه لا في المذهب ولا في دليله لاختصاصه بالاستقلالية وإنما ينسب إليه لسلوكه طريقه في الاجتهاد يعني لا يكون مقلد في المذهب في الأقوال والأدلة وإنما هو مستقل لكنه ارتضى بالأصول التي درج عليها الإمام فهو يستنبط على طريقته وذلك لأن هذا الشخص وجد أن طريقة هذا الإمام أحسن من طريقة غيره من الأئمة الآخرين وذلك من أمثال من ؟ من أمثال النووي وابن حجر وابن كثير هؤلاء أعلام من أعلام الشافعية لكن هؤلاء مقلدون معاذ الله مع أنهم يقول فلان بن فلان الشافعي الشافعي أيش ؟ مذهباً مقلداً لا وإنما طريقة ولهذا فمن كان كذلك لا يعد مقلداً وإن كان منتسباً للمذهب فهذا في الحقيقة ينطبق عليه وصف المجتهد . الحال الثاني : أن يكون مجتهداً مقيداً بالمذهب مستقلاً بتقرير أصوله بالدليل غير أنه لا يتجاوز في أدلته أصول إمامه وقواعده وشرطه كونه عالماً بالفقه وأصوله وأدلة الأحكام تفصيلاً بصيراً بمسالك الأقيسة والمعاني تام الارتياض والتخريج والاستنباط هذا النوع الثاني في الحقيقة أنه لا يخلو من شوائب التقليد لأنه أخل بشروط المجتهد المطلق . الحال الثالث: ما يبلغ مرتبة الأول والثاني لكنه فقيه النفس حافظ للمذهب ويعرف الأدلة ويقررها يستطيع تصوير المسألة يحررها يمكن أن يرجح بعضها على بعض. الحال الرابع : وهو أدنى نوع هو الذي يحفظ المذهب وينسبه إلى قائله ويستطيع أن يحيلك إلى المراجع هل هذا تقبل فتاوية ؟ هذا في الحقيقة أنه يعني حاله العام كحال الشريط تفتحه وتسمع مثل هذا يعني تقبل أقواله في حال عدم وجود العالم المقرر الذي يستطيع أن يفصل بين المسائل ويكون كلامه مجرد نقل .

عاشراً : أحكام تتعلق بالمفتين : أولاً : يحرم التساهل في الفتوى ومن عرف بالتساهل حرم استفتاؤه فمن التساهل مثلاً : ألا يثبت متسرع في الفتوى قبل أن يستوفي الفتيا ويعطيها حقها من النقاش وتنزيلها على الواقع ومعرفة ملابساتها معرفة ما إذا كان هذا المستفتي أتى بألفاظ موهمة معرفة أن يكون هذا السائل مخادع ماكر يريد أن يتوصل إلى الحرام أيضاً من التساهل ألا تعطى هذه الفتوى حقها من الفكر وإجالة النظر .

ثانياً : من التساهل أن تحمله الأغراض الفاسدة على التساهل مثل تتبع الرخص مثلاً وتتبع الحيل المحرمة يعني يكون شخص قد طلق امرأته ثلاثاً فيوجد له عذراً وحيله يتوصل به إلى إرجاع هذه المرأة كأن يقول له مثلاً زوجها فلان واليوم الثاني يرجعها له أنت أدخل يدك في جيبك ونحن نوجد لك طريقة ولا يهمك فمثل هذا لا يجوز أن يسأل وليس من التساهل ولا من التسرع ولا من الحيل أن يكون قصد المفتى صحيح فإذا كان المفتي مثلاً يستطيع أن يوجد مخرجاً لقضية ما ويكون هذا المخرج صحيحاً لا تحايلاً فذلك حسن جميل . قال سفيان الثوري : إنما العلم عندنا الرخصة من الثقة فأما التشديد فيحسنه كل أحد لكن المقصود بالرخصة هنا الرخصة الشرعية وليست الرخصة التي هي حيلة . من الأحكام المتعلقة بالمفتين ينبغي للمفتي ألا يفتي في حال تغير مزاجه كالغضب والقلق والجوع والعطش والخوف والنوم وسائر المنغصات كل ذلك استنباطاً من قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم – (( لا يقضين حكم بين اثنين وهو غضبان))[6] فكل ما كان يشوش الذهن لا ينبغي له أن يفتي في مثل هذه الحالة . ثالثاً : أن يكون إفتاؤه تبرعاً من دون أن يأخذ أجراً لكن يجوز له أن يأخذ أحراً من الدولة أو من جهة مستقلة . رابعاً : لا يجوز له أن يفتي أهل بلد لا يعرف لهجتهم ومدلولاتها لأن الحكم يتعلق باللفظ فينبغي أن يكون عارفاً باللسان وإلا لزمه أن يسأل من الرجل أو من ثقة وإلا يحيل الفتوى إلى علماء المنطقة لأنهم أعرف باللسان يعني لو جاء مثلاً واحد من أصحاب تهامة يسأل واحد من علماء تعز ربما تحتاج إلى قواميس ولا نجد لغتهم إلا أن يشاء الله تعالى . خامساً : إذا كان المفتي ناقلاً عن المذهب من الكتب فالواجب أن ينقل من الكتب الموثوق بها وصحة نسبتها إلى مؤلفها وأن الأقوال منسوبة إلى مؤلفها أنت لما تأتي تنظر الآن إلى المتأخرين فيقول مثلاً : وهذا مذهب الشافعي ولما تنظر في كلام الشافعي ما هي من كلام الشافعي تجدها من كلام متأخري الشافعية فلابد من التأكد والتيقن أن هذا الكلام هو كلام فلان بن فلان الكتاب هذا قد يكون منسوب في كتاب في العقيدة منسوب إلى الشافعي ولا يصح نسبته إليه وهو محمل بعقيدة الإرجاء يأتي بعضهم ويستدل يقول : قال الشافعي قال الشافعي كذا فلابد في الإفتاء من التأكد من صحة هذه الكتب وصحة مؤلفيها . سادساً : إذا أفتى في حادثة ثم حصلت مثلها فعلى المفتي أن يتأكد من مشابهه الحادثة الجديدة للقديمة ومطابقتها لها مائة بالمائة فإذا كانت كذلك مشابهة كان الحكم واحداً أما إذا اختلفت فيجب عليه أن يعيد النظر في الفتوى . سابعاً : ينبغي ألا يقتصر في فتواه على قوله في المسألة خلاف ويسكت ولا في المسألة قولان أيش يستفيد العامي من هذا ؟ بل لا بد من إعطاء السائل الحكم الراجح فإن لم يعرف يتوقف .

الحادي عشر آداب الفتوى : للمفتي آداب عليه أن يلتزم بها ويتحلى بها منها : 1- أن يبين الجواب بياناً يزيل الإشكال سواء كان مشافهة أو كتابة فإذا لم يزيل الإشكال ما أفاد شيئاً . 2- أن لا يكتب ويجيب بأكثر مما في السؤال إن لم يكن ضمن السؤال وله أن يقول في الفتوى وإن كان الأمر كذا فالجواب كذا وله أن يزيد في الجواب إذا كان له تعلق بالسؤال .                    والحمد لله رب العالمين



[1] – البخاري 2/952

[2] – البخاري 1/50

[3] – البخاري 1/52

[4] – سنن أبي داود 2/345

[5] – مسلم 3/1356

[6] – البخاري 6/2616

اضافة تعليق

اضغط هنا للتعليق