أصبح كبير السن اليوم غريبا بين أهله وأولاده ثقيلا حتى على أقاربه وأحفاده من هذا الذي يجالسه ؟ ومن هذا الذي يؤانسه ؟ بل من هذا الذي يدخل عليه السرور ويباسطه ؟
من أحكام المسنين
العناصر:
1- مراحل خلق الإنسان .
2- رسالة إلى كبار السن .
3- رسالة إلى الشباب.
4- المبادرة بالأعمال.
5- الغرب وحقوق الإنسان .
الحمد لله ذي الفضل والإحسان ، يمن على من يشاء بهدايته للإيمان ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمد عبده ورسوله أرسله بالهدي ودين الحق بين يدي الساعة بشيرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسرجا منيرا ، وصلى الله عليه وسلم تسليما كثيرا….
وبعد:
عباد الله :
يقول الله عز وجل: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ )[1]
سبحان من خلق الخلق بقدرته وصرفهم في هذا الوجود والكون بعلمه وحكمته وأسبغ عليهم الآلاء والنعماء بفضله وواسع رحمته ، خلق الإنسان ضعيفا ثم أمده بالصحة والعافية فكان به حليما رحيما لطيفا .
حديثنا اليوم سيكون عن ( كبار السن في مجتمعنا من الأهل والأقارب والجيران وممن نخالطهم في المساجد والمجالس ، إنه الكبير الذي نظر الله إلى ضعفه وقلة حيلته فرحمه وعفا عنه فقال تعالى: (إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً (98) فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً) [2]
نقف اليوم مع كبير السن ومع حقوقه التي طالما ضيعت ومشاعره وأحاسيسه التي طالما جرحت ومع آلامه وهمومه و غمومه وأحزانه التي كثرت وعظمت.
أيها المسلمون :
أصبح كبير السن اليوم غريبا بين أهله وأولاده ثقيلا حتى على أقاربه وأحفاده من هذا الذي يجالسه ؟ ومن هذا الذي يؤانسه ؟ بل من هذا الذي يدخل عليه السرور ويباسطه ؟
إذا تكلم الكبير قاطعة الصبيان وإذا أبدى رأيه ومشورته سفهه الصغار فأصبحت حكمته وخبرته في الحياة إلى ضياع وخراب .
وأما إذا خرج فقد كان يخرج بالأمس القريب إلى الأصحاب والأحباب إلى الإخوان والخلان يزورهم ويزورنه ويقضي حوائجهم ويقضون حوائجه.
أما اليوم فيخرج إلى الأشجان والأحزان يخرج اليوم إلى أصحابه وأحبابه من أقرانه يعود مريضهم ويشيع جنائزهم فيعود وهو حزين القلب دامع العين لا يجد من يكفكف دمعه وينتظر دوره وأجله المحتوم .
يا معشر الكبار أسأل الله عز وجل أن يرحم ضعفكم ويجبر كسركم ففي الله عوض عن الفائتين وفي الله أنس للمستوحشين .
إنا لنعلم أنه قد تجعد جلدك وثقل سمعك وضعف بصرك وبطئت حركتك وترهلت عضلاتك وتغير لون شعرك ومع ذلك فأنتم كبار في قلوبنا وكبار في نفوسنا كبار في أعيننا وكبار بعظم حياتكم وفضلكم بعد الله علينا أنتم الذين علمتم وربيتم وبنيتم و قدمتم وضحيتم لئن نسي الكثير فضلكم فالله لا ينسى ولئن جحد الكثير معروفكم فالمعروف لا يبلى .
يا معشر الكبار أما الآلام والأسقام الأمراض التي تجدونها بسبب كبر السن فالملائكة كتبت حسناتها والله عظم أجورها وستجدونها بين يدي الله عز وجل فالله أعلم كم كان لهذه الأسقام والآلام من حسنات ودرجات اليوم تزعجكم وتقلقكم وتبليكم وتقض مضاجعكم ولكنها غدا بين يدي الله عز وجل تفرحكم وتضحككم فاصبروا على البلاء و احتسبوا عند الله جزيل الأجر والثناء فإن الله لا يمنع عبده المؤمن حسن العطاء.
قال عليه الصلاة السلام : ( عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله له خير إن أصابته سراء شكر فكان خير له و إن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن)[3]
ثم يا معشر الشباب توقير الكبير وتقديره أدب من آداب الإسلام وسنة من سنن سيد المرسلين عليه الصلاة والسلام وشيمة من شيم الصالحين والأوفياء.
قال الله تعالى: (قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ) [4]
يا معشر الشباب ارحموا كبار السن وقدروهم ووقرهم وأجلوهم فإن الله يحب ذلك ويثيب عليه خيرا كثيرا قال عليه الصلاة والسلام: ( إن من إجلال الله إجلال ذي الشيبة المسلم…. )[5]
وقال عليه الصلاة والسلام ( ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويوقر كبيرنا )[6]
فإذا رأيت الكبير فارحم ضعفه وأكبر شيبته وقدر منزلته وأرفع درجته وفرج كربته واعتبر بما رواه أحمد في مسنده عن أنس رضي الله عنه قال جاء أبو بكر بأبيه أبي قحافة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة يحمله حتى وضعه بين يدي رسول الله عليه الصلاة والسلام فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : (لو قررت الشيخ في بيته لأتيناه )[7]
يا معشر الشباب أحنوا على كبار السن ولاسيما الوالدين قال الله تعالى: (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً)[8]
وكذلك الكبار من الأعمام و العمات والأخوال ….إلخ كم تجلسون مع الأصحاب من الساعات كم تجالسونهم وتباسطونهم وتدخلون السرور عليهم فإذا جلستم إلى الأقارب ضقتم .
أيها المسلمون سئل بعض السلف فقيل له من أسعد الناس فقال : من ختم له بالخير وجاءت على الخير قيامته قال عليه الصلاة والسلام ( خيركم من طال عمره ونحسن عمله وشركم من طال عمره وساء عمله )[9]
يا ابن آدم إذا رق عظمك وشاب شعرك فقد أتاك النذير قال الله تعالى: (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمْ النَّذِيرُ)[10]
إنها تذكرة من الله عز وجل وتنبه منه سبحانه ورحمة لعباده كان السلف الصالح إذا بلغ الرجل منهم أربعين سنة لزم المسجد وسأل الله العفو عما سلف وسأله الإحسان فيما بقي من الأزمان قال الله عز وجل : (حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنْ الْمُسْلِمِينَ)[11]
أما اليوم فأبناء الخمسين والستين لا يزالون يلهثون وراء الدنيا نحن جميعا في غفلة عظيمة..
يا معشر الشباب أنتم قدوة لأبنائكم و أهليكم وقدوة في مجتمعاتكم إذا جلست مع الأبناء فإن كنت محافظا على الخير والطاعات أحبوك وهابوك وإن وجدوك تسب الناس أهانوك وأذلوك وهكذا يجزئ المحسن بالإحسان والمسيء بالخيبة والخسران إن المجتمع لا يقبل أن يرى كبير السن سيء الأخلاق والمعاملة.
معاشر المسلمين : إن مما يحافظ على صحتنا و جوارحنا وقوتنا حين تكبر السن طاعة لله عز وجل فلا تستخدم جوارحك بالمعاصي يقول عليه الصلاة والسلام ( احفظ الله يحفظك)[12]
روي عن أبي الطيب الطبري أنه جاوز المائة وهو متمتع بقوته فركب مرة سفينة فلما خرج منها قفز قفزة قوية لا يستطيعها إلا الشباب الأقوياء فقيل له كيف فعلت هذا ؟ فقال : ولم لا وما عصيت الله بواحدة منها قط !
عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى عليه وسلم كان يدعو بهذا الدعاء: ( اللهم أقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك و من اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا ومتعنا اللهم بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحيتنا وأجعله الوارث منا وأجعل ثأرنا على من ظلمنا وانصرنا على من عادنا ولا تجعل مصيبتنا في ديننا ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا ولا إلى النار مصيرنا وأجعل الجنة دارنا ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يرحمنا )[13]
معاشر المسلمين :
أن مرحلة الشيخوخة من العمر مرحلة عصيبة ولا عجب فلقد تعوذ منها رسولنا صلى الله عليه وسلم كما في حديث أنس رضي الله عنه ( اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل والجبن والهرم))[14]
وفي رواية أنه عليه الصلاة والسلام ( كان يتعوذ من أن يُرد إلى أذل العمر )[15]
الخطبة الثانية:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه وبعد:
فيا عباد الله : ( بادروا بالأعمال الصالحة فتنا كقطع الليل المظلم يمسي الرجل مؤمنا ويصبح كافرا ويمسي كافرا ويصبح مؤمنا يبيع دينه بعرض من الدنيا قليل )[16]
إن الدول وإن أعتنت بهذه المرحلة من عمر الإنسان فظهر ما يسمى بنظام التقاعد و الضمان الاجتماعي فإن الإسلام قد سبق في هذا المجال قال عليه والصلاة والسلام: ( كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته …)[17]
وقال أيضا ( ما من عبد يسترعه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة)[18]
وفي شريعتنا رحمة بالبشرية ومن رحمة الله أنه خص كبار السن ببعض الأحكام إشفاقا عليهم ومن ذلك :
1- أمر أئمة المساجد بتخفيف الصلاة.
2- أن كبير السن أحق بالإمامة إذا كانوا في القراءة سواء .
3- كبير السن الذي لا يثبت على الراحلة يحج عنه.
4- أن الصغير يسلم على الكبير .
5- أن يقدم الشراب أولا للكبار .
6- جواز كشف المسنة وجهها لغير المحارم وحجابها أفضل.
7- الشريعة نهت عن قتل المسنين في الغزو حال الجهاد.
فانظر إلى شريعتنا السمحاء وإلى ما يفعله الأعداء إنهم يرسلون صواريخهم على النساء والأطفال والشيوخ بدون رحمة .
وإن تعجب فاعجب من موقف عمر بن الخطاب مع ذلك اليهودي الذي كان يؤخذ منه الجزية في شبابه وعندما كبر في السن قال : الفاروق رضي الله عنه ما أنصفناك إن لم نفرض لك عطاء من بيت المال ثم فرض له ما يعينه على قضاء حوائجه .
أيها ا لأحباب : إن الغرب الذي يدعي المطالبة بحقوق الإنسان : إليك بعض أخباره مع كبار السن: فقد اقترح مستشار الرئيس الفرنسي الأسبق في إحدى الدراسات أن يعطي الشيوخ علاجا طبيا مكثفا إذا تجاوز سنا معينة من أجل التعجيل بوفاته.
وهناك مستشفى في الدانمرك يرفض استقبال المرضى المسنين حتى لا تطول إقامتهم بالمستشفى ويجب أن تقف الرعاية للعاملين الذين يسهمون في تمويل صناديق الرعاية .
إن الشيخوخة تعني ضعف البدن بعد قوته وبياض الشعر بعد سواده وانحناء الجسم بعد استقامته فنحن نرى كبير السن يمشي على ثلاث قدميه وعصاه وينظر بأربع عينيه ونظارتيه ويسمع بأربع أذنيه وسماعتيه ونلاحظ أوصاله تترهل وكأنه يقول هذا أذان بالانتقال من هذه الدنيا إلى الآخرة .
قالوا أنينك طول الليل يقلقنا فما الذي تشتكي؟ قلت الثمانينا
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم .
[1] – سورة الروم آية (54)
[2] – سورة النساء آية (98_99)
[3] – الترغيب 4/478
[4]– سورة القصص آية (24)
[5] – سنن أبي داود 5/174
[6] – الترمذي 4/321
[7] – أحمد 3/160
[8] – الإسراء آية (23)
[9] – الترغيب 4/254
[10] – فاطر آية (37)
[11] – الأحقاف آية(15-16)
[12] – الترمذي 4/667
[13] – الترمذي 5/528
[14] الترمذي 5/566
[15] – أحمد 1/183
[16] – مسلم 1/110
[17] – الصحيحة 4/179
[18] مسلم 3/1460
اضافة تعليق