بسم الله الرحمن الرحيم
مشكلة البطالة بين الواقع و المأمول
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه وبعد :
أيها المستمع الكريم عند التحدث عن مشكلة عظيمة القدر مثل مشكلة البطالة فلا بد من تقديم أسبابها الحصرية من ثم تقدم الحلول الجذرية , و إنما أحسب أنني أطرحها من زاوية غير التي يدور حولها الكتاب و يدندن حولها الاقتصاديون تلك الدندنات التي تمثل حلولا غير عملية أو لعلها حلولا غير مباشرة الأثر . و أحسب كذلك أننا قد أوغلنا في بحث المشكلات من النواحي النظرية , و أحسب أن كثيرا من الحلول المقدمة لا تمثل سوى أماني شمولية .
مستمعي الكرام البطالة شكلتها عدة عوامل في بلادنا وفي كثر بلاد المسلمين:
أهم هذه العوامل العامل الأول :
–ثقافة الوظيفة :
إن كمّا كبيرا من الشباب يقف طموحه عند الحصول على وظيفة يذهب إليها صباحا و يعود منها ظهرا , و يقبض مرتبا ثابتا ينظم حاله و وضعه عليه , و يفضل أن تكون الوظيفة في شركة خاصة جيدة المرتب , و يفضل التوظيف في الحكومة من أجل الحصول على الخبرة و العلاقات و ربما بعض التسهيلات و الامتيازات التي توفرها الوظيفة الحكومية في بعض الدول من نحو السكن و الترحيل و العلاج و خلافه . هذه الميزة قد تنفع في الحصول على وظيفة ذات مرتب مجزئ في إحدى دول الخليج إذا سنحت للشاب الفرصة عن طريق شراء إقامة بواسطة أحد الأقارب أو التقديم عن طريق ( عمرة أو تسلل أو تهريب ) أو عبر الإعلانات و مواقع الإنترنت , و حتى في الشركات الخاصة في الوظائف التي تتطلب خبرة .
أيها المستمع ا لكريم إن هذه الثقافة – فيما أعتقد – ناتجة عن الأجيال السابقة التي كان الموظف فيها سيدا في قومه مبرزا و رائدا بينهم , هذا مع ما كان من عائد الوظيفة المجزي الذي شمل خيره القريب و البعيد و شاد البيوت , فكان حلم الكثيرين الحصول على الوظيفة , و ترادف معنى الوظيفة مع الاستقرار و الطمأنينة و الراحة النفسية هذا مع ما توفره قوانين العمل من حماية للموظف و حقوق و امتيازات .
إن هذه الثقافة لها دور عظيم في تكبيل الطموحات و وأد المبادرة و روح التحدي و التقليل من قدر الأعمال المهنية و تحطيم الحماسة في مواجهة الصعاب.
ولهذا أيها المستمعون الكرام هل من حل لهذه الثقافة التي قيدت الشباب عن الحركة و الحراك والجد في العمل ؟
للقضاء على هذه الثقافة لابد من إعادة صياغة ثقافة العمل والإنتاج, و يمكن أن يتم ذلك عبر الآتي:
أ – المناهج الدراسية .
ب – الحد من شخصنة الوظائف العامة , بحيث لا يكون الموظف متحكما بإطلاق في مصالح المواطنين في ولايته , فيهب من يشاء و يمنع من يشاء , فلا بد من أسس محاسبة شديدة ودقيقة للموظف حتى لا يظن الناس سهولة الوظيفة و خفة مسئوليتها , و لا بد من أن يكون تعامل الموظف وفق لوائح واضحة و محددة و معلنة .
ج- إبراز أهمية النشاطات الاقتصادية المختلفة – سوى الوظيفة – في دفع التنمية العامة و إعالة الأسر و العوائل و اكتساب الدخل المجزي .
د- بث الأفكار الاستثمارية البسيطة ,و التي يمكن أن تكون مدخلا لحياة عملية و منتجة بعيدا عن الوظيفة .
هـ – إعلاء قدر العمل الفني و المهني و تشجيعه .
إن هذه النقاط و غيرها كثير , يمكن أن تسهم و بشكل فاعل في تغيير ثقافة التقوقع حول الوظيفة و إصلاح المفاهيم المتعلقة بها , و أرجو أن تمثل هذه الإشارة البسيطة بذرة للاهتمام بالدراسات الاجتماعية و النفسية و السلوكية حول ثقافة الوظيفة و مدى تأثيرها في مشكلة البطالة و كيفية معالجتها .
وهذا هو العامل الثاني لمشكلة البطالة
–قوانين العمل :
إن قوانين العمل السائدة تفرض عليه فروضا كثيرة و متنوعة مما يؤدي إلى عزوف المقدمين على الاستخدام المستقر خاصة في الأعمال الدنيا , بل و ربما الاستغناء عن الكثير من الوظائف غير المهمة و التي تشكل لهم التزاما ماليا و حقوقا متراكمة للعاملين , مما يؤدي كذلك إلى الاستغناء عن بعض العاملين قبل تقدمهم في مستويات الوظيفة حتى لا تتكاثر حقوقهم .
من جانب آخر فإن حقوق الموظف القانونية تمثل ضغطا على صاحب العمل حيث لا يمكنه الاستغناء عن الموظف إلا بمصروفات عالية مما يجعله يتحايل على القوانين بالقوانين الأخرى , فيحرصون على استخدام العاملين بأدنى المرتبات حتى لا تتكاثر حقوقهم و حتى لا يترتب على التخلي عنهم حقوق مالية .
إن مما لا بد منه من أجل محاربة البطالة إلغاء قوانين العمل السائدة حاليا بحيث لا يكون حاكم العلاقة بين المخدمين و المستخدمين هو الاتفاق الحر و عقودات العمل , و قد يخاف البعض استغلال بعض المؤسسات والمخدمين قوتهم في المساومة من أجل إهدار حقوق العاملين و استغلالهم بأسوأ الشروط .
أيها المستمع الكريم لحل هذا المشكلة لابد من الآتي :
أ – لابد أن تكون شروط المؤسسات مجزية وأعلى من المتوسط السائد.
ب – تحسين شروط خدمات المؤسسات إذا كانت ترغب في الاستمرار و النجاح فالشروط المجحفة ستؤدي إلى نفور الخبرات و الكفاءات إلى جهات أفضل .
ج- المحافظة على العدالة والحقوق من واجبات الدولة بحيث يستحق كل عامل أجر المثل في أي جهة يعمل فيها من دون شروط و يحصل على حقوقه الشرعية .
إن قوانين العمل تؤثر بشكل مباشر على عزوف المخدومين عن استخدام العاملين بصورة مستقرة و مجزية نسبة لما ترتبه من حقوق آجلة تترتب على الاستقرار الوظيفي للعامل
و لصعوبة الاستغناء عن العاملين بسبب القيود القانونية مما يترتب عليه الإحجام عن التوظيف
و الحذر في ذلك .
المشكلة المعضلة في قانون العمل تتمثل في أن الذين يضعونها هم موظفون أنفسهم لذلك , فهم يرتبون حقوقا للموظف مجحفة لصاحب العمل و هاضمة لحقه في التصرف في ملكه لذلك فقد يسعى لاستغلال ثغرات القانون المشجعة لعدم إستقرار العمالة .
أيها المستمع الكريم أضع بين يديك العامل الثالث للبطالة:
– عوائق العمل الحر :
من عوامل تفاقم البطالة العوائق و القيود المفروضة على العمل الحر مثل العمل الفني : بناء , نقاشة , حدادة , ميكانيكا , كهرباء … إلخ , و العمل التجاري و الاستشاري و الخدمي , و في هذه العجالة أتطرق إلى بعض هذه العوائق و القيود :
أ – العوائق الحكومية : إن الدولة ( الحكومة ) تسهم و بشكل كبير في مشكلة البطالة , و ذلك من خلال الآتي :
(1) الرخص والتصاريح: إن الرخص والتصاريح الحكومية تمثل عائقا حقيقيا في ممارسة الأعمال الحرة ليس ماديا فحسب بل و كذلك من خلال الحط من قدر العاملين بها عبر المطاردات و الملاحقات و الإذلال .
إن هذه الحقائق المشاهدة لا تحتاج إلى منافح ينكرها و إلا كان بمثابة من يضع أصابعه في آذانه من الصواعق و ما هو بمانعها .
إن الرخص والتصاريح قد بلغت قدرا عظيما من القيمة المادية بما لا يستطيع بأدئ عمل و لا مستمر فيه من أصحاب المهن الحرة و كذلك من يرغبون في ولوج المجالات التجارية البسيطة , و التي تكون رخصها و وتصاريحها أكبر بكثير من رؤوس أموالها , فلا بد للحكومة من النظر بجدية في الآثار السالبة لكثير من جباياتها و التي تعمل على وأد الحماسة و الجرأة و المقدرة على بذل الجهد من أجل وضع مادي و إجتماعي جيد .
(2) الضرائب : و ما أدراك ما الضرائب . لقد أدت إلى ترك العديد من التجار تجاراتهم و جمد كثير من المستثمرين نشاطاتهم التي كان لها دور مقدر في الاستخدام و العمل , و اتجهوا إلى نشاطات خفيفة و سريعة العائد و غير مؤسسية , و بأقل قدر من التكاليف والعوائق الحكومية , و لن تستطيع حكومة في الأرض سد الثغرات كلها .
(3) الجبايات الأخرى : النظافة , تحسن المدينة , التبرعات الإجبارية و الإشتراكات القسرية و غيرها قد أدت
و تؤدي إلى كثرة الاحتكاكات مع الحكومة و بالتالي الاتجاه غلى نشاطات هامشية جانبية مريحة للبال , و إما العزوف عن العمل بالكلية انتظارا لظروف أفضل أو سفر قريب .
(4) مفاهيم العاملين بالدولة : إن للعاملين بالدولة نظرة عجيبة تجاه العاملين بالمهن الحرة , و هذه النظرة ليست خاصة و شخصية بل إنها تتحكم في قرارات الحكومة و معاملة موظفيها لهم , فنجد موظفي الضرائب لا يحفلون بإقرارات التجار و ربما كذلك حتى بالحسابات المراجعة بصورة قانونية , بل عندهم إتهام دائم للتجار و المستثمرين بالكذب ( لماذا يكذبون ؟ ) , كما أنهم يعتقدون أن كل من يعمل في المهن الحرة هو ذو دخل عال وأن عليه تمويل الخدمات الحكومية بنصيب أكبر , فنجد الموظفين خالين من كل التزام أو التزامهم قليل بالنسبة للدخل , أما التاجر أو المستثمر أو العامل فعليه أن يدفع شطر ماله أو ربحه للدولة و هذا من العجب العجاب , و ينتج عنه عدم المساواة بين المواطنين المتساوي الدخل .
هذا أمور مسلم بها , فتجد مفاهيم موظفي الحكومة تتحد إلى حد كبير مع مفاهيمهم المجحفة المائلة عن الصواب
و العدل , فلا بد إذا من إعادة النظر في هذه الجنايات وفق المفاهيم الشرعية الربانية( و لا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا ..) .
و لا بد من رفع القيود و العوائق الحكومية الكثيرة و المدمرة عن العمل الحر و المهن الحرة , و على الحكومة رقابة شرعية المعاملات و سلامتها و عدم تعدي و ظلم الإفراد لبعضهم البعض , و إلزام المتعاقدين بعقودهم .
(5) العوائق الفنية : إن هناك العديد من العوائق الفنية التي تؤثر على البطالة , منها :
أ- ضعف التأهيل الفني .
ب- فقدان الخبرة .
ج- عدم القدرة على الإدارة .
إن هذه العوائق قد أدت إلى أن بعض الشركات تستجلب العمالة الماهرة من الخارج في كافة المجالات في كافة المجالات المهنية و الفنية , حتى العمال في مجالات المعمار و النظافة و غيرها من المهن البسيطة , إذ لا يوجد أفراد مؤهلين للقيام بها بشكل جيد و مستوى عال , فلا بد إذا من تأهيل فني عال و الرقي بالمهن الفنية و الأوضاع الاجتماعية للعاملين بها و إدخال التحسينات في المناهج الدراسية , بحيث يتم التدريس الفني و التدريب لكل الدارسين سواء كانوا أكاديميين أو غيرهم , و هذا ما لاحظته في مناهج بعض الدول الأوربية منذ زمن بعيد أنهم يدخلون العمل اليدوي و المهني ضمن مقررات الدراسة المعتادة , فيتخرج الطالب من المراحل الأساسية و بيده مهن عديدة يجيدها و يمكن أن يتطور فيها لاحقا .
(7) العوائق الشخصية و الثقافية : منها :
أ- ضمور الثقة بالنفس .
ب- ضمور الأفكار و المبادرة .
ج- الخوف من التعاون و المشاركة .
إن العوائق الشخصية و الثقافية ناتجة عن مجموعة المفاهيم الممتزجة و التي يستخلصها الفرد من محيطه الاجتماعي سواء كان واسعا أو ضيقا , كما و تؤثر فيه مفاهيم الفرد الخاصة و آراؤه و توجهاته نحو بيئته و نفسه .
إن للتربية دور هام في تنمية الشخصية و صقلها , كما أن للتجربة العملية دورها في بث الثقة بالنفس و نشر الأفكار و دعم المبادرة , و على هذا يمكن اجتياز مثل هذه العوائق عبر الآتي :
1- أن تحتوي المناهج الدراسية على المفاهيم و التوجهات التي تشجع التفكير و المبادرة و تبث الثقة بالنفس و تدعو إلى المشاركة و التعاون , ليس على النحو النظري الضعيف الذي نراه الآن , و لكن لا بد من أن يحتوي المنهج على القصص و التاريخ و السير و الأخبار و الآيات و الأحاديث و التجارب الداعمة لهذا التوجه , و بثها في كافة المنهج الدراسي مع توجيهها بوضوح نحو هذه المفاهيم .
2- لا بد من توفير زمن للتدريب و التجريب , بحيث أن كل دارس يجد فرصته في الإحتكاك بأهل الخبرة و التخصص , و بأنواع الآلات و المعدات و البيئات و تطبيق العلوم التي يمكن أن تساعده في تنمية أفكاره و تصوراته عن العمل و الإنجاز و تسمح له بالعيش في الجو العملي الفعلي , بحيث يتجاوز أهم الصعوبات و التعقيدات .
3- إيجاد جهات تشجع المبادرات العلمية للطلاب و تعمل على مساعدتهم في الحصول على التمويل و الدعم الفني و النفسي و التدريبي و التسويقي .
إن العوائق الشخصية و الثقافية هي من أكثر المعوقات حاجة للتذليل , إذ أنها حجر العثرة الأول في سلم المبادرة العملية و الخروج من دائرة الإحباط .
أيها المستمع الكريم اختم حديثي هذا باقتراح الحلول التالية لمشكلة البطالة بل و الكثير من مشكلاتنا الاقتصادية المرتبطة بها من قريب أو بعيد :
أ- تحرير سوق العمل من القيود القانونية الكثيفة و المعقدة باسم حماية العاملين .
ب- تحرير الاقتصاد من هيمنة المؤسسات الاقتصادية الحكومية أو شبه الحكومية , بل و تصفيتها الفورية و إخراج الدولة من النشاط الاقتصادي تنافسيا بالكلية , اللهم إلا الرقابة الشرعية .
ج- تحرير النشاط الاقتصادي بصورة عامة من القيود المالية و الجبايات الضرائبية الكثيرة و المجحفة , اللهم إلا الزكاة و التوظيف الضروري .
د- تحرير مؤسسات التمويل من وصاية الدولة و توجيهها لنشاطات التمويل , اللهم إلا الرقابة الشرعية .
ثم أختم أخيرا بقول شعيب عليه الصلاة و السلام لقومه ( و ما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت و ما توفيقي إلا بالله عليه توكلت و إليه أنيب ) .





اضافة تعليق